الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ورمز إلى المشبه به بشيء من روادفه وهو حرف الظرفية فيكون حرف في تخييلًا مجردًا وليس باستعارة تخيلية إذ ليس ثم ما يشبه بالخزانة ونحوها، فوزان هذا التخييل وزان أظفار المنية في قول أبي ذؤيب الهذلي:
وهذه الظرفية شبيهة بالإضافة البيانية مثل قوله تعالى: {أُحلت لكم بهيمة الأنعام} [المائدة: 1] وقوله: {أكفاركم خير} [القمر: 43] فإن الكفار هم عين ضمير الجماعة المخاطبين وهم المشركون.فقوله: {وأنزلنا فيها} هو: بمعنى وأنزلناها آيات بينات.ووصف {آيات} ب {بينات} أي واضحات، مجاز عقلي لأن البيّن هو معانيها، وأعيد فعل الإنزال مع إغناء حرف العطف عنه لإظهار مزيد العناية بها.والوجه أن جملة {لعلكم تذكرون} مرتبطة بجملة: {أنزلنا فيها آيات بينات} لأن الآيات بهذا المعنى مظنة التذكر، أي دلائل مظنة لحصول تذكركم.فحصل بهذا الرجاء وصف آخر للسورة هو أنها مبعث تذكر وعظة.والتذكر: خطور ما كان منسيًا بالذهن وهو هنا مستعار لاكتساب العلم من أدلته اليقينية بجعله كالعلم الحاصل من قبل فنسيه الذهن، أي العلم الذي شأنه أن يكون معلومًا، فشبه جهله بالنسيان وشبه علمه بالتذكر.وقرأ الجمهور: {تذَّكرون} بتشديد الذال وأصله تتذكرون فأدغم.وقرأه حمزة والكسائي وحفص وخلف {تذَكرون} بتخفيف الذال فحذفت إحدى التائين اختصارًا.{الزانية والزانى فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ}.ابتداء كلام وهو كالعنوان والترجمة في التبويب فلذلك أتي بعده بالفاء المؤذنة بأن ما بعدها في قوة الجواب وأن ما قبلها في قوة الشرط.فالتقدير: الزانية والزاني مما أنزلت له هذه السورة وفرضت.ولما كان هذا يستدعي استشراف السامع كان الكلام في قوة: إن أردتم حكمهما فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة.وهكذا شأن هذه الفاء كلما جاءت بعد ما هو في صورة المبتدأ فإنما يكون ذلك المبتدأ في معنى ما للسامع رغبة في استعلام حاله كقول الشاعر، وهو من شواهد كتاب سيبويه التي لم يعرف قائلها: التقدير: هذه خولان، أو خولان مما يرغب في صهرها فانكح فتاتهم إن رغبت.ومن صرفوا ذهنهم عن هذه الدقائق في الاستعمال قالوا الفاء زائدة في الخبر.وتقدم زيادة الفاء في قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} في سورة العقود (38).وصيغتا {الزانية والزاني} صيغة اسم فاعل وهو هنا مستعمل في أصل معناه وهو اتصاف صاحبه بمعنى مادته فلذلك يعتبر بمنزلة الفعل المضارع في الدلالة على الاتصاف بالحدث في زمن الحال، فكأنه قيل: التي تزني والذي يزني فاجلدوا كل واحد منهما إلخ.ويؤيد ذلك الأمر بجلد كل واحد منهما فإن الجلد يترتب على التلبس بسببه.ثم يجوز أن تكون قصة مرثد بن أبي مرثد النازل فيها قوله تعالى: {الزاني لا ينكح إلا زنية أو مشركة} [النور: 3] إلخ هي سبب نزول أول هذه السورة.فتكون آية {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة} هي المقصد الأول من هذه السورة ويكون قوله: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} تمهيدًا ومقدمة لقوله: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة} [النور: 3] فإن تشنيع حال البغايا جدير بأن يقدم قبله ما هو أجدر بالتشريع وهو عقوبة فاعل الزنى.ذلك أن مرثد ما بعثه على الرغبة في تزوج عناق إلا ما عرضته عليه من أن يزني معها.وقدم ذكر {الزانية} على {الزاني} للاهتمام بالحكم لأن المرأة هي الباعث على زنى الرجل وبمساعفتها الرجل يحصل الزنى ولو منعت المرأة نفسها ما وجد الرجل إلى الزنى تمكينًا، فتقديم المرأة في الذكر لأنه أشد في تحذيرها.وقوله: {كل واحد منهما} للدلالة على أنه ليس أحدهما بأولى بالعقوبة من الآخر.وتعريف {الزانية والزاني} تعريف الجنس وهو يفيد الاستغراق غالبًا ومقام التشريع يقتضيه، وشأن أل الجنسية إذا دخلت على اسم الفاعل أن تبعّد الوصف عن مشابهة الفعل فلذلك لا يكون اسم الفاعل معها حقيقة في الحال ولا في غيره وإنما هو تحقق الوصف في صاحبه.وبهذا العموم شمل الإماء والعبيد، ف {الزانية والزاني} من اتصفت بالزنى واتصف بالزنى.والزنى: اسم مصدر زَنى، وهو جماع بين الرجل والمرأة اللذين لا يحل أحدهما للآخر، يقال: زنى الرجل وزنت المرأة، ويقال: زانى بصيغة المفاعلة لأن الفعل حاصل من فاعلين ولذلك جاء مصدره الزناء بالمدّ أيضًا بوزن الفِعال ويخفف همزه فيصير اسمًا مقصورًا.وأكثر ما كان في الجاهلية أن يكون بداعي المحبة والموافقة بين الرجل والمرأة دون عوض، فإن كان بعوض فهو البغاء يكون في الحرائر ويغلب في الإماء وكانوا يجهرون به فكانت البغايا يجعلن رايات على بيوتهن مثل راية البيطار ليعرفن بذلك وكل ذلك يشمله اسم الزنى في اصطلاح القرآن وفي الحكم الشرعي.وتقدم ذكر الزنى في قوله تعالى: {ولا تقربوا الزنى} في سورة الإسراء (32).والجلد: الضرب بسير من جلد.مشتق من الجلد بكسر الجيم لأنه ضرب الجلد.أي البشرة.كما اشتق الجَبْه، والبَطْن، والرأس في قولهم جَبَهه إذا ضرب جبهته، وبَطنَه إذا ضرب بطنه، ورَأسه إذا ضرب رأسه.قال في الكشاف: وفي لفظ الجلد إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتجاوز الألم إلى اللحم. اهـ.أي لا يكون الضرب يُطير الجلد حتى يظهر اللحم، فاختيار هذا اللفظ دون الضرب مقصود به الإشارة إلى هذا المعنى على طريقة الإدماج.واتفق فقهاء الأمصار على: أن ضرب الجلد بالسوط.أي بسَيْر من جلد.والسوط: هو ما يضرب به الراكب الفرس وهو جلد مضفور، وأن يكون السوط متوسط اللين، وأن يكون رفع يد الضارب متوسطًا.ومحل الجلد هو الظهر عند مالك.وقال الشافعي: تضرب سائر الأعضاء ما عدا الوجه والفرج.وأجمعوا على ترك الضرب على المقاتل، ومنها الرأس في الحد.روى الطبري أن عبد الله بن عمر حد جارية أحدثت فقال للجالد: اجلد رجليها وأسفلها، فقال له ابنه عبد الله: فأين قول الله تعالى: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} فقال فاقتها.وقوله: {كل واحد منهما} تأكيد للعموم المستفاد من التعريف فلم يكتف بأن يقال: فاجلدوهما، كما قال: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة: 38] وتذكير كل واحد تغليب للمذكر مثل {وكانت من القانتين} [التحريم: 12].والخطاب بالأمر بالجلد موجه إلى المسلمين فيقوم به من يتولى أمور المسلمين من الأمراء والقضاة ولا يتولاه الأولياء، وقال مالك والشافعي وأحمد: يقيم السيد على عبده وأمته حد الزنى، وقال أبو حنيفة لا يقيمه إلا الإمام.وقال مالك: لا يقيم السيد حد الزنى على أمته إذا كانت ذات زوج حر أو عبد ولا يقيم الحد عليها إلا ولي الأمر.وكان أهل الجاهلية لا يعاقبون على الزنى لأنه بالتراضي بين الرجل والمرأة إلا إذا كان للمرأة زوج أو ولي يذب عن عرضه بنفسه كما أشار إليه قول امرىء القيس: وقول عبد بني الحسحاس: الدهارس: الدواهي.ولم تكن في ذلك عقوبة مقدرة ولكنه حكم السيف أو التصالح على ما يتراضيان عليه.وفي الموطأ عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله.وقال الآخر وهو أفقههما: أجل يا رسول الله فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي أن أتكلم.فقال: تكلم.قال: إن ابني كان عسيفًا على هذا فزنى بامرأته فأخبروني أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة وبجارية لي، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام وأخبروني أنما الرجم على امرأته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، أما غنمك وجاريتك فردّ عليك.وجلد ابنه مائة وغربه عامًا وأمر أنيسًا الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر فإن اعترفت رَجمها فاعترفت فرجمها.قال مالك: والعسيف الأجير. اهـ.فهذا الافتداء أثر مما كانوا عليه في الجاهلية، ثم فرض عقاب الزنى في الإسلام بما في سورة النساء وهو الأذى للرجل الزاني، أي بالعقاب الموجع، وحبس للمرأة الزانية مدة حياتها.وأشارت الآية إلى أن ذلك حكم مجمل بالنسبة للرجل لأن الأذى صالح لأن يبيّن بالضرب أو بالرجم وهو حكم موقت بالنسبة إلى المرأة بقوله: {أو يجعل الله لهن سبيلًا} [النساء: 15] ثم فرض حد الزنى بما في هذه السورة.ففرض حد الزنى بهذه الآية جلد مائة فعمّ المحصن وغيره، وخصصته السنة بغير المحصن من الرجال والنساء.فأما من أحصن منهما، أي تزوج بعقد صحيح ووقع الدخول فإن الزاني المحصن حده الرجم بالحجارة حتى يموت.وكان ذلك سُنةً متواترةً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ورجم ماعز بن مالك.وأجمع على ذلك العلماء وكان ذلك الإجماع أثرًا من آثار تواترها.وقد روي عن عمر أن الرجم كان في القرآن «الثيِّب والثيبة إذا زنيا فارجموهما البتة» وفي رواية «الشيخ والشيخة» وأنه كان يقرأ ونسخت تلاوته.وفي أحكام ابن الفرس في سورة النساء: وقد أنكر هذا قوم، ولم أر من عيّن الذين أنكروا.وذكر في سورة النور أن الخوارج بأجمعهم يرون هذه الآية على عمومها في المحصن وغيره ولا يرون الرجم ويقولون: ليس في كتاب الله الرجم فلا رجم.ولا شك في أن القضاء بالرجم وقع بعد نزول سورة النور.وقد سئل عبد الله بن أبي أوفى عن الرجم: أكان قبل سورة النور أو بعدها؟ يريد السائل بذلك أن تكون آية سورة النور منسوخة بحديث الرجم أو العكس، أي أن الرجم منسوخ بالجلد فقال ابن أبي أوفى: لا أدري.وفي رواية أبي هريرة أنه شهد الرجم.وهذا يقتضي أنه كان معمولًا به بعد سورة النور لأن أبا هريرة أسلم سنة سبع وسورة النور نزلت سنة أربع أو خمس كما علمت وأجمع العلماء على أن حد الزاني المحصن الرجم.وقد ثبت بالسنة أيضًا تغريب الزاني بعد جلده تغريب سنة كاملة، ولا تغريب على المرأة.وليس التغريب عند أبي حنيفة بمتعين ولكنه لاجتهاد الإمام إن رأى تغريبه لدعارته.وصفة الرجم والجلد وآلتهما مبينة في كتب الفقه ولا يتوقف معنى الآية على ذكرها.عطف على جملة {فاجلدوا}؛ فلما كان الجلد موجعًا وكان المباشر له قد يرق على المجلود من وجعه نُهي المسلمون أن تأخذهم رأفة بالزانية والزاني فيتركوا الحد أو ينقصوه.
|